قصه قصيره شارد الذهن

بقلم الياس الخطابي

لم أعد أطيق الحديث كثيرا، أو قليلا. يوما بعد آخر أزداد صوما على الكلام. لا أتحدث في المواقع، ولا في الواقع. ألتقي مع الأصدقاء في الواقع ثم أجدهم يخبرونني بما قرأته في المواقع. لا جديد تسمعه، ولا أمل يبثونه في داخلك. الجميع هنا حزين وبائس ..

فيما مضى كنت أكره الذهاب للمقهى وحيدا. لم أكن أحتمل الجلوس وحدي. كنت أفضل دوما أن أشرب فنجان قهوة مع صديق أو أكثر. الآن لم يعد يرافقني أحد للمقهى. أذهب وحيدا. أجلس وأشرب قهوتي ببطء. أظل جالسا وحدي وأتأمل كل ما أراه، وفي مرات أخرى أسترجع الذكريات وأتأمل كيف عشتها ولماذا عشتها بتلك الطريقة. حينما أكون وحدي فأنا أقترب من نفسي كثيرا، وأقترب من الحياة أكثر

منذ أكثر من أسبوع وأنا أجلس في المساء وحيدا في المقهى. في كل مرة أجد فتاة جالسة وحدها. في الغالب أسمع لموسيقى هادئة تأتيني من مكانها. أنهض قبلها وأغادر .. اليوم قبل أن أغادر. نهضت عندي. سلمت علي باسمة. ثم سألتني بإحراج:
-لماذا تأتي هنا وحدك. كل مرة أراقبك فيها لا أجدك تفعل أي شيء سوى النظر للبحر وأراك شارد الذهن على الدوام ؟
مرت في ذهني أجوبة متعددة كنت قد سمعتها وقرأتها عن التأمل وفوائده. كنت أود أن أجيبها بما قرأته ليفلسوف يغيب عني إسمه:
-التأمل يساعد المرء بالتخلص من الضغط النفسي ويجلب السلام الداخلي

تذكرت أني أحتاج لجواب عن ما أشعر به، ولست بحاجة لأكرر ما قاله الفلاسفة، أو أحد آخر. صمت قليلا وضحكت. حينما رأتني الفتاة لم أجبها وطال إنتظارها. قالت لي:
-أرى الكتب والأوراق معك. ربما أنت شاعر، أو ما يشبه ذلك. سأعود لمكاني لأجلس. سأنتظر إجابتك في ورقة

غادرت. نهضت للمرحاض. أفرغت مثانتي. مررت على المرآة فحدقت فيها. سألتني وأنا أنظر إليّ للمرآة:
-لماذا تأتي إلى هنا وحدك دائما؟
عدت لمكاني بدون أن أجيبني. لم يكن سؤالا صعبا. الجواب موجود في داخلي. لكن الكلمات تأبى التعبير عنه. جلست. أخرجت قلما، ثم أخرجت ورقة كانت محشوة في صفحات الكتاب الذي رافقني. أغمضت عيني وأمرت القلم أن يكتب، فكتب :
-آتي إلى هنا كي أستريح من ثقل هذه الحياة

نهضت. أديت ثمن سعر القهوة ومررت على الطاولة التي جلست فيها الفتاة. وصلت عندها. حينما رأتني نهضت وهي تبتسم. أردت أن أمد لها الورقة. لكن تراجعت عن ذلك بمجرد أن سمعتها تقول لي:
-هذه المرة سنغادر معا في وقت واحد
أخذت حقيبتها، وحشرت هاتفها في جيب سروالها. هممت بالخروج، ثم تبعتني. إنتظرتها قرب باب المقهى. رأيتها تخرج النقود وتريد دفع ثمن ما شربته. بعد فترة قليلة خرجت. لم نتفق أين سنذهب، ولم نسأل بعضنا أين نقطن. تمشينا ببطء نحو ساحة المدينة. كانت تقول أشياء كثيرة. لكن عقلي لم يكن حاضرا معي. الجسد وحده من كان موجودا. توقفنا وجلست. طلبت مني الجلوس فأبيت. سألتني:
-لماذا؟
أجبتها:
-لا أدري
أضافت سؤالا آخر:
-هل تريد الذهاب؟
-لا. أريد أن أذهب حيث يباع العقل. أنا بدون عقل. أشعر أني موجود هنا، وفي الحين ذاته أشعر أني موجود هناك

إستغربت. حدقت في عينها بدت لي خائفة. ظنت أحمقا، ويمكن أن أضربها في آية لحظة. غادرت بدون أن أودعها. تركتها جالسة. نادت علي وقالت لي كلاما لم أسمعه. سرت في الطريق وكادت أن تدهسني سيارة الأجرة. توقف سائقها وقال لي وهو يطل من النافذة:
-قبل أن تقطع الطريق أنظر للسيارات هل هي آتية كي لا يقتلك أحد
لم أشكره، ولم أعتذر له. واصلت سيري. سمعته يسبني ويقول:
-البشر في هذه المدينة غريب جدا..يرتكب الأخطاء ولا يطلب الصفح

وصلت للمنزل. طرقت الباب. إنتظرت قليلا ثم فتحته والدتي. دخلت. قبل أن أغير الحذاء. وجدتها تتصفحني، وتنظر ليدي. سألتني والحيرة بادية على وجهها:
-إبني عمر أين السخرة التي قلت لك تبضعها؟
قبل أن أجيبها. سألتني:
-هل حقا والدتي طلبت مني أن أشتري شيئا ما؟
نسيت كليا ما طلبته مني. إعتذرت لأمي وأخبرتها أني قد نسيت. أعدت حذائي الذي ألبسه حينما أخرج، ثم قلت لها:
-سأذهب لآتي بالسخرة ثم أعود لاحقا

تمشيت في الطريق بسرعة. كان عقلي يغلي بالغضب. أصابني توتر رهيب. شعرت أني كائن فقد عقله، وفقد أشياء كثيرة، ولم يعد كجميع البشر. الشيطان وسوس لي في الطريق وأخبرني أن جن ما أصابني، وأصبح يسكن جسدي. حاولت أن أطرد كل الإحتمالات التي تدور في خلدي حتى وصلت للدكان الذي أبتاع منه. بدأت أطلب منه ما أريد إقتناؤه. أوقفني ثم قال لي ضاحكا:
-عمر ما تقوله لي لقد أخبرتني به في الصباح. سخرتك هي موجودة في تلك الحقيبة. لقد دفعت ثمنها وتركتها هنا وأخبرتني أنك ذاهب للمقهى وحينما ستغادرها ستعود وتأخذها

كدت أن أجن. حملت الحقيبة. خرجت من الدكان وأنا أسألني:
-ألهذه الدرجة أنت شارد الذهن يا أنا؟

One thought on “قصه قصيره شارد الذهن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *