الحمد لله وفَّق من شاء لمكارم الأخلاق وهداهم لما فيه فلاحهم يوم التلاق أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الخلاّق، وأشهد أن محمدا عبد الله وسوله أفضل البشر على الإطلاق صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين أما بعد إن الحياة الدنيا حياة تجمع بين المتناقضات ففيها السعادة والشقاء والحزن والفرح والصحة والمرض والنجاح والفشل والراحة الكاملة فيها غير مطلوبة والسعادة التامة غير محققة، لذا فقد وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها سجن للمؤمن وجنة للكافر، والمسلم العاقل هو من يفهم الدنيا على حقيقتها فيتخذها معبرا ومزرعة للآخرة، وكذا فإن العاقل هو من يجعل همه الأكبر آخرته، ومتع الدنيا متع ناقصة بل وزائلة والمؤمن لا يحزن على فوات شيء منها.
وعن الإمام علي رضي الله عنه قال لعمار رضي الله عنه لا تحزن على الدنيا فإن الدنيا ستة أشياء، مأكول ومشروب وملبوس ومشموم ومركوب ومنكوح، فأحسن طعامها العسل وهو بزقة ذبابة، وأكثر شرابها الماء يستوي فيه جميع الحيوان، وأفضل ملبوسها الديباج وهو نسج دودة، وأفضل المشموم المسك وهو دم فأرة، وأفضل المركوب الفرس وعليها يقتل الرجال، وأما المنكوح فالنساء وهو مبال في مبال والله إن المرأة لتزين أحسنها يراد به أقبحها، والراحة العظمى والنعيم الأكبر هو الذي يحصل عليه المؤمن حينما يضع قدميه في الجنة، وقال محمد بن حسنويه حضرت أبا عبد الله أحمد بن حنبل وجاءه رجل من أهل خراسان فقال يا أبا عبد الله قصدتك من خراسان أسألك عن مسألة قال له سل قال متى يجد العبد طعم الراحة قال عند أول قدم يضعها في الجنة.
وقال أبو بكر بن طاهر اصبر على شدائد الدنيا فإن وعد الله تعالي حق لمن صبر فيها على الشدائد أن يوصله إلى الراحة الكبرى وهو مقعد صدق عند مليك مقتدر، لذا يجب على المؤمن أن يجعل شوقه الأكبر لما عند الله تعالى من نعيم خالد وسعادة أبدية وليسأل نفسه هل أنا أشتاق إلى الجنة ولماذا أشتاق إليها ؟ فإذا ما كانت الإجابة نعم أشتاق إلى الجنة فليفكر فيما يجعله يشتاق إليها وليعش بوجدانه وقلبه مع نعيمها وكيف تفتح الأبواب لمن يدخلها ؟ وكيف يدخلها بسلام وهو آمن غير مكدر ولا مهموم ولا وجل ؟ وليوقن أنها سلعة غالية تحتاج إلى إيمان خالص وعمل صالح، وليعلم أن الجنة رجاء المؤمنين وأمل الطائعين وأمان الخائفين وواحة المخبتين، ونعيم الجنة صنعه الله تعالى بيده ففي الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
والذي يحيا بوجدانه وفكره وقلبه مع نعيم الجنة يتضاءل كل نعيم في الدنيا ويهون أمام ناظريه فمن نعيم الجنة الذي يجعلنا نشتاق إليها، وكما أن أهل الدنيا يبنون ويشيدون الدور والقصور ويضعون فيها كل ما يملكون من كماليات ووسائل الراحة والرفاهية ويناسون أن كل ذلك إلى زوال وأنه عما قليل سيترك وأن هناك دورا وبيوتا وقصورا أعدها الله تعالى لعباده المؤمنين الصالحين، وأن هذه البيوت وتلك القصور لا تشبه بيوت الدنيا وقصورها في شيء، وهذه القصور لا تكون إلا لمن قدم لها الثمن ومن ثمنها طيب الكلام وإطعام الطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام، ومن ثمنها الصبر والرضا بالقضاء والقدر، ومن ثمنها ترك المراء والجدال، وفي الدنيا يحرص المرء على تناول أشهى الأطعمة وأشهاها وألذها ولكنه ينسي أن ذلك الطعام مصيره بعد لحظات إلى الغائط.
وأن الطعام ذاته فيه ما يشتهى وفيه ما لا يشتهى كما أن فيه الضار وفيه النافع وكذلك الشراب مر بعض أولاد المهلب بمالك بن دينار وهو يتبختر في مشيته، فقال له مالك يا بني لو تركت هذا الخيلاء لكان أجمل، فقال أوما تعرفني ؟ قال أعرفك معرفة جيدة أولك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة وأنت بين ذلك تحمل العذرة، فأرخى الفتى رأسه وكف عما كان عليه