الحمد لله واهب الفضل والنعم، والصلاة والسلام على خير من استنهض في سبيل الله الهمم وعلى صحبه وآله أفضل من سار لأعلى القمم، أما بعد إن الشهداء أحياء في قبورهم فهم أحياء لا يموتون، وهي إصطفاء من الله تعالي، كرامة لا يمكن أن يحظى بها كل أحد، وقد هيأ الله أصحابها لها وأورثهم الجنة بها، ولما أراد الله تعالي أن يشحذ همم العباد لطاعته وطاعة نبيه ذكرهم بأن عاقبة ذلك أن يكونوا مع الشهداء، ويكفي أن نعلم أن كل ميت يعلم أن مآله إلى الجنة لا يمكن إذا خيّر بين البقاء في قبره والرجوع إلى أهله أن يختار الرجوع إلى الدنيا، لما أعده الله تعالي له من واسع فضله وعظيم نعمته إلا الشهيد، إنه يتمنى أن يرجع لترتوي الأرض بدمائه مرة بعد مرة، إنه يتمنى أن تمزق أحشاؤه في سبيل دينه، حيث إن الشهادة رتبة تمناها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يخفى عليكم أن من علمائنا.
من جنح إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم مات شهيدا من اثر سمّ يهود ومرتبة الأنبياء أكمل بلا ريب ولكن أريد أن يُجمع له بين أشتات الفضائل، ولقد أخبرنا نبينا المصطفي صلى الله عليه وسلم بما للشهيد من فضل وكرامة عند ربه، وكفى بصوت الطلقات والدبابات على رأسه فتنة، وكفى بصوت الراجمات والصواريخ وقذائف الهاوند والآر بي جي فتنة، وكفى بالكيماويات السامة فتنة، ولقد آتت النصوص النبوية أكلها في شحذ همم أصحابه للسعي في نيل الشهادة، فلا يظن ظان أن الشهيد هو من قتل في ساحات الوغى فحسب، فمن الشهداء الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم هو صاحب السل، ومن مات بذات الجنب، والحريق، وصاحب الهدم، والمرأة تموت جمعاء بابنها في بطنها، والنفساء، ومن قتل دون ماله أو دينه أو عرضه أو دمه، واعلموا يرحمكم الله أن تعزية المصابين من هدي سيد المرسلين عليه الصلاة والتسليم.
فلقد رأى جابرا منكسرا فعزاه، والتعزية هو الحمل على الصبر بوعد الأجر مع الدعاء للميت، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ” من عزى أخاه المؤمن في مصيبة كساه الله حلة خضراء يحبر بها” وقيل ما يحبر بها ؟ قال “يغبط بها” وفيها أن الحزن على الميت لا ينافي الصبر، فلقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم وقام بقلبه وإنما يعذب الله باللسان كما أخبر سيد الأنام، ومنها أن الله لم يكلم أحدا بغير حجاب إلا عبد الله بن حرام بعدما قتل في سبيل الله تعالي، ومنها أن من مات فلا يمكن أن يرجع للدنيا، لقول الله تعالى ” إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون ” فمن الخطأ أن نعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر في اليوم الذي يوافق مولده ويحتفل مع الناس، ولكل إنسان في هذه الحياة أمنيات وآمال يسعي إلى تحقيقها وتتفاوت هذه الأمنيات وتلك الآمال بتفاوت الأشخاص زمانا ومكانا، فأصحاب الهمم العالية لهم أمنيات وطموحات.
تختلف عن أمنيات وطموحات أصحاب الهمم الدنيئة والله تعالى يعطي كل إنسان على حسب سعيه وحسب ما يتمنى، فمن الناس من يجعل أمنياته وطموحاته وآماله في هذه الحياة لا تتعدى أمور الدنيا إلى ما سواها من أمور الآخرة، فليس له هم إلا تحصيل الأموال والمناصب والوجاهات وهو في أمانيه تلك لا يرعوي ولا يشبع من شيء ولا يقنع بشيء، أما المؤمن فإن لديه في الدنيا نوعان من الأمنيات يسعي إلى تحقيها، فالأول هو أمنيات حياتية مشروعة كتمنيه الزوجة الصالحة والذرية الطيبة، وتمنيه العمل الموفق والستر والعافية والمال الحلال الذي يعف به نفسه ويؤدي حق الله تعالى فيه والعلم النافع الذي ينفع به نفسه وينفع به غيره، والإسلام لا يمنع أن يسعى المسلم في هذه الحياة إلى الكسب الحلال ليعف نفسه ويحفظ من يعول ولا يمنعه من طلب العلم شريطة أن يكون علما نافعا يعود خيره عليه وعلى غيره.
وهو في كل ذلك يستصحب النية الخالصة لله رب العالمين، فالمؤمن في كل ما يتمنى يطلب مرضاة الله تعالى حتى إذا تمنى أمرا من أمور الدنيا طلبه وتمناه ليبتغي به وجه الله سبحانه، وقال كعب الأحبار كان رجلا ملكا في بني إسرائيل، فعل خصلة واحدة، فأوحى الله إلى نبيّ زمانهم قل لفلان يتمنى، فقال يا رب أتمنى أن أجاهد بمالي وولدي ونفسي فرزقه الله ألف ولد، فكان يجهز الولد بماله في عسكر، ويخرجه مجاهدا في سبيل الله، فيقوم شهرا ويقتل ذلك الولد، ثم يجهز آخر في عسكر، فكان كل ولد يقتل في الشهر، والملك مع ذلك قائم الليل صائم النهار، فقتل الألف ولد في ألف شهر، ثم تقدم فقاتل فقتل، فقال الناس لا أحد يدرك منزلة هذا الملك فأنزل الله تعالى ” ليلة القدر خيرا من الف شهر ” أي من شهور ذلك الملك، في القيام والصيام والجهاد بالمال والنفس والأولاد في سبيل الله تعالي.