الحمد لله الذي خلق فسوى وقدر فهدى، وأسعد وأشقى، وأضل بحكمته وهدى، ومنع وأعطى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي الأعلى، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي المصطفى، والرسول المجتبى، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى، ثم أما بعد ذكرت كتب الفقه الإسلامي أن النخلة كلما طال عمرها إزداد خيرها وجاد ثمرها وكذلك المؤمن إذا طال عمره إزداد خيره وحسن عمله، وكذلك أن قلبها من أطيب القلوب وأحلاه وهذا أمر خصت به دون سائر الشجر وكذلك قلب المؤمن من أطيب القلوب، وكذلك أنها لا يتعطل نفعها بالكلية أبدا بل إن تعطلت منها منفعة، ففيها منافع أخر حتى لو تعطلت ثمارها سنة لكان للناس في سعفها وخوصها وليفها وكربها منافع وهكذا المؤمن لا يخلو عن شيء من خصال الخير قط أن أجدب منه جانب من الخير أخصب منه جانب.
فلا يزال خيره مأمولا وشره مأمونا، وفي الترمذي مرفوعا إلى النبي صلي الله عليه وسلم قوله ” خيركم من يرجى خيره ويؤمن شره وشركم من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره ” فهذا فصل معترض ذكرناه استطرادا للحكمة في خلق النخلة وهيئتها فلنرجع إليه فتأمل خلقة الجذع الذي لها كيف هو تجده كالمنسوج من خيوط ممدودة كالسدا وأخرى معترضة كاللحمة كنحو المنسوج باليد وذلك لتشتد وتصلب فلا تتقصف من حمل الحيوان الثقيل وتصبر على هز الرياح العاصفة ولبثها في السقوف والجسور والأواني وغير ذلك مما يتخذ منها وهكذا سائر الخشب وغيرها إذا تأملته شبه النسج ولا تراه، مصمتا كالحجر الصلد بل ترى بعضه كأنه داخل بعضا طولا وعرضا كتداخل أجزاء اللحم بعضها في بعض فإن ذلك إمتن له وأهيأ لما يراد منه فإنه لو كان مصمتا كالحجارة.
لم يمكن أن يستعمل في الآلات والأبواب والأواني والأمتعة والأسرة والتوابيت وما أشبهها ومن بديع الحكمة في الخشب أن جعل يطفو على الماء وذلك للحكمة البالغة إذ لولا ذلك لما كانت هذه السفن تحمل أمثال الجبال من الحمولات والأمتعة وتمخر البحر مقبلة ومدبرة ولولا ذلك لما تهيأ للناس هذه المرافق لحمل هذه التجارات العظيمة والأمتعة الكثيرة ونقلها من بلد إلى بلد من حيث لو نقلت في البر لعظمت المؤنة في نقلها وتعذر على الناس كثير من مصالحهم، وحكي عن عبد االله بن أحمد قال قدمت من عند معاوية بثلاثمائة ألف دينار وليس بيدي منها إلا دقيق وغنم وأثاث، ففزعت من ذلك فلقيت كعب الأحبار فذكرت له ذلك فقال أين أنت من النخل، فإنا نجدها في كتاب االله تعالى المطعمات في المحل الراسخات في الوحل وخير المال النخل، بائعها ممحوق ومبتاعها مرزوق.
مثل من باعها ثم لم يجعل ثمنها في مثلها كمثل رماد صفوان، إشتدت به الريح في يوم عاصف ففزعت إلى النخل فابتعتها، وروي عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ” أخبروني بشجرة مثلها مثل المسلم تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، لا تحت ورقها” فيقول عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فوقع في نفسي أنها النخلة، فكرهت أن أتكلم، وأبو بكر وعمر فلما لم يتكلما، قال النبي صلى الله عليه وسلم ” هي النخلة” فلما خرجت مع أبي قلت يا أبتي وقع في نفسي أنها النخلة، قال ما منعك أن تقولها؟ لو كنت قلتها كان أحب إلي من كذا وكذا، قال ما منعني إلا لم أراك ولا أبا بكر تكلمتما فكرهت، ولما سأل الرسول المصطفي صلى الله عليه وسلم هذا السؤال لأصحابه الكرام ألقي في نفس عبد الله بن عمر بن الخطاب أنها النخلة.
فعمر من كبار الصحابة الذين أسلموا قديما وإبنه صغير السن بطبيعة الحال كان حاضرا في المجلس حينما توجه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا السؤال وعبد الله بن عمر كانت عنده حكمة وعنده كياسة وعنده علم وعنده أدب العلم وأدب العلماء، وأدب مجالس العلماء، فألقي في نفسه أنها الشجرة التي من صفتها أنها تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها”.