سمير باكير يكتب-
مقالة توم باراك الأخيرة في صحيفة النهار ليست تحليلاً واقعياً للتحوّلات في الشرق الأوسط، بقدر ما هي محاولة لإعادة إنتاج السرديّة الأميركية حول سورية ولبنان. الكاتب يتجاهل الحقائق الميدانية، ويقدّم صورةً مشوَّهة تبرّر السياسات الفاشلة لواشنطن في المنطقة.
سورية بعد الجولاني؛ نهاية الحلم الغربي
يُصوّر باراك المشهد السوري وكأنّ واشنطن ما زالت اللاعب الرئيسي في المعادلة، غير أنّ الواقع الميداني يُظهر العكس تماماً. فبعد مرور عام على انقلاب الجولاني وسعيه المستمر لفتح قنوات اتصال مع الولايات المتحدة وإسرائيل، تبيّن له أنّ المحور الغربي لا يملك إرادة حقيقية لدعمه ولا رغبة في الاستثمار السياسي أو الاقتصادي في سورية. حتى رفع العقوبات الظاهري بموجب «قانون قيصر» لم يغيّر شيئاً في واقع البلاد.
هذا الفشل دفع الجولاني إلى إدراك أنّ مصالحه لا يمكن أن تتحقّق إلا عبر التنسيق مع روسيا. وقد عكست اللقاءات الأخيرة بين المسؤولين السوريين والرئيس فلاديمير بوتين هذا التحوّل الواضح في الاتجاه السياسي لدمشق.
وفي الوقت ذاته، ما تزال سورية تواجه تهديداتٍ أمنية متزايدة نتيجة عودة تنظيم داعش. فالانقسامات داخل هيئة تحرير الشام، وانفصال المجموعات الشيشانية والإيغورية والأوزبكية عنها، وإعلان بعضها مبايعة داعش في محيط دمشق، تؤكد أنّ سياسة الجولاني المزدوجة ومحاولته التقارب مع الغرب قد أدّت إلى تفكك داخلي كبير في صفوفه، الأمر الذي قد يُمهّد لموجة جديدة من عدم الاستقرار الأمني في المستقبل القريب.
اتفاق أبراهام؛ سلام بارد بلا روح
يقدّم باراك «اتفاق أبراهام» بوصفه إنجازاً تاريخياً للسلام في الشرق الأوسط، إلا أنّ الوقائع تُكذّب هذا الادعاء. فالتجربة التاريخية تُظهر أنّ كلّ مرة دخلت فيها إسرائيل حرباً أو اعتداءً، انهارت مشاريع السلام الهشّة. فبعد ثلاث سنوات فقط من اتفاق «كامب ديفيد» مع مصر، شنّت إسرائيل حرب لبنان عام 1982 واحتلّت العاصمة بيروت، فتحوّل السلام إلى سلام بارد وجامد لا يتجاوز الحفاظ على الوضع القائم.
واليوم يسير اتفاق أبراهام في الاتجاه نفسه؛ إذ إنّ الهجمات الإسرائيلية المتكرّرة على لبنان وإيران وقطر وفلسطين جرّدته من أي مضمونٍ حقيقي، وحوّلته إلى إطار شكليّ يفاقم الانقسامات الإقليمية بدلاً من أن يرسّخ الاستقرار.
لبنان والاستعمار الجديد لواشنطن
في تناوله للشأن اللبناني، يتجاهل باراك حجم الفساد المستشري في نظام المساعدات الخارجية، محاولاً تصوير الدور الأميركي بصورة المنقذ. لكنّ الحقيقة أنّ المساعدات العسكرية الأميركية للجيش اللبناني، والتي تُقدَّر بنحو مئة مليون دولار سنوياً، لم تسهم في تعزيز قدراته، بل تحوّلت إلى وسيلةٍ للنفوذ السياسي والمالي الأميركي. فجزء كبير من هذه الأموال يُوجَّه عبر السفارة الأميركية إلى قنوات سياسية، بعيداً عن الاحتياجات الفعلية للجيش.
أما المشاريع التي تطرحها واشنطن مثل «الفرصة الأخيرة»، فهي ليست سوى شكلٍ من أشكال الاستعمار الجديد، إذ تسعى لربط مستقبل الأمن اللبناني بقرارات تصاغ في واشنطن. هذا التدخّل السافر في الشؤون الداخلية لا يُنتج حلولاً بل يُعمّق الأزمة. والتجربة اللبنانية تُثبت أنّ الحوار بين القوى الوطنية، بعيداً عن الضغط الخارجي، هو الطريق الوحيد نحو تسوية حقيقية.
الحقيقة في مواجهة السرديّة
يرسم توم باراك صورة مقلوبة للواقع، محاولاً فرض الرواية الأميركية على تطوّرات المنطقة. غير أنّ ما يجري اليوم في سورية ولبنان يكشف فشل تلك السرديّة التي يحاول إحياءها. فسورية تتّجه نحو تثبيت سيادتها من خلال التحالف مع الشرق، ولبنان يمتلك القدرة على استعادة توازنه الداخلي إذا ما تخلّت القوى الأجنبية عن وصايتها عليه.
إنّ زمن التحليلات الغربية البعيدة عن الميدان قد ولّى، وتوم باراك، رغم محاولاته تكرار تلك الرؤية البالية، لا يفعل سوى أن يشهد انهيارها أمام الواقع كما هو
